قال العلامة سعيد فودة في كتاب درر الفرائد:
[align=right:7b007442af]ومن نفس الباب قوله تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " فكل هذه الآية تأكيد لكمال تدبير الله تعالى للمخلوقات من العرش إلى الفرش .
وهذه الآية مقسمة إلى قسمين:
الأول بيان أن الله تعالى هو خالق الكون لا خالق له سواه.
والثاني بيان أن الله تعالى مدبر حكيم للمخلوقات لا يعزب عن علمه وتدبيره شيء كبر أو صغر.
ففي أول الآية يؤكد الله تعالى أنه خالق للسموات والأرض، ثم بعد ذلك لم يتركها بلا تدبير، بل قدرة الله تعالى ممسكة بكل ما في الكون على أحكم وجه .
وهذان المعنيان مذكوران على التفضيل في أول الآية ثم تكرر ذكرهما مرة أخرى على سبيل الإجمال ، وفي آخر الآية مدح لله تعالى بما يستحق.
وسنزيد هذا الكلام بيان ووضوحاً فيما يلي :
وسنعتمد في ذلك على تقسيم الآية وتدبرها والنظر فيها كلها من أولها إلى آخرها، لا كما يفعل المجسمة، كما سننبه إليه .
الآية تنقسم إلى :
كلام تفصيلي .
وكلام إجمالي .
وخاتمة مناسبة .
فأما القسم الأول وهو التفصيلي فيتألف من معنيين:
المعنى الأول: وهو تفصيل قوله تعالى: [إن ربكم الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ]. وفيه بيان أن الله تعالى خالق للكون بما فيه.
المعنى الثاني : وهو تفصيلي، قوله تعالى: [استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبُه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ] .
وفيه بيان أن الله هو المدبر لشؤون الكون، العالم بما فيه، الحكيم في أفعاله .
والربط بين المعنيين في هذا القسم التفصيلي هو حرف [ثم] الذي له هنا معنى الواو، فحرف ثم هنا لا يجوز أن يكون مفيداً للتراخي، لما يلزم عن ذلك من أن الله تعالى ترك الكون فترة غير مدبر أي بلا تدبير، وهذا باطل ومعنى فاسد وخلاف ما هو المقصود بيانه في هذه الآية، لذلك وجب حمل "ثم" هنا على المعنى الذي ذكرناه أي الترتيب بلا تعقيب، وسيأتي زيادة بيان لذلك .
أما القسم الثاني من هذه الآية، فهو الكلام الإجمالي العام وهو قوله تعالى: [ ألا له الخلق والأمر ] وفي الحقيقة فهذا الكلام ما هو إلا تأكيد لما سبق ذكره على سبيل التفصيل، ولذلك فهو يتألف من حيث المعنى من نفس المفردات والمعاني التي يتركب القسم الأول المذكور .
وبيان ذلك كما يلي:
ـ قوله تعالى [ألا] هو حرف تنبيه يراد به هنا التأكيد على المعنى اللاحق .
وهو يقابل قوله تعالى في أول الآية [إن] فهي كما هو معلوم حرف تأكيد .
ـ قوله تعالى: [ له الخلق ] فيه توكيد أن الخلق إنما هو لله تعالى وهو يقابل المعنى الأول من القسم الأول التفصيلي كما رأينا .
ـ قوله تعالى:[ والأمر ] فيه توكيد أن الأمر الذي يتضمن معنى العلم والتدبير التام إنما هو لله رب العالمين. وهو يقابل المعنى الثاني من القسم الأول التفصيلي كما رأينا .
ـ وأما حرف [ ثم ] المذكور في القسم الأول التفصيلي كرابط بين المعنى الأول منه والمعنى الثاني، والذي تكلمنا على معناه في هذا الموضع فيقابل حرف الواو المذكور في قوله تعالى [ألا له الخلق و الأمر] فحرف الواو هنا يربط بين جزأي المقسم الثاني الإجمالي، ويفيد أن الخلق مصاحب وغير متخلف مطلقاً عن الأمر الذي هو التدبير، وهذا فيه توكيد أن حرف "ثم" لا يجوز أن يكون معنا الترتيب مع التراخي كما قلنا، بل الترتيب بلا تعقيب .
وبهذا تكتمل هيكلية الآية الكريمة، وتزداد وضوحاً في أذهان القراء الكرام .
وأما القسم الثالث منها، فهو قوله تعالى: [تبارك الله رب العالمين ] وهي خاتمة مناسبة للمعاني المذكورة منها.
لأن الرب تتضمن معنى المدبر لشؤون الخلق العالم بأحوالهم، إذ لا تدبير بلا علم، وهو المربي لخلقه الدال على ما فيه خيرهم .
ومن كان كذلك استحق أن يكون مباركاً، ومعبوداً من المخلوقات إظهاراً منهم لشكره على ما أنعم به عليهم .
هذا هو المفهوم من الآية كما يفهمها العاقلون، وكل الآيات التي ورد فيها ذكر الاستواء تفهم بنفس الأسلوب المذكور .
ولو أردنا ذكر جميع أدلتنا على ما ذكرناه هنا في فهمنا لهذه الآية للزمنا إفراد كتاب خاص، والمجال لا يتسع ههنا لأكثر مما مضى .
والذي نريد التنبيه إليه هنا هو أن هذه الآية ومثيلاتها تتكلم عن أفعال الله وما يجب علينا تجاه الله تعالى تبعاً لما أنعم به علينا ولما أحاطنا به من نعمة لا تنكر .
وليس المراد هنا مطلقاً الكلام على الصفات الذاتية لله تعالى، لأن كل ما فيها إنما هو كلام عن أفعال الله تعالى التي اقتضتها صفاته الذاتية وليس الكلام عن صفاته الذاتية أصالة .
وبأسلوب آخر نقرر أن المراد من الآية إنما هو إثبات أحكام تصديقية تتعلق بالله تعالى، أي أنها تثبت أن الله تعالى هو خلق العالم، وهو يدبر ما فيه، فمع أن الآية بمضمونها لا تتكلم مطلقاً عن صفات ذاتية لله تعالى، كلاماً مقصوداً بالذات، وإن كان متضمناً، فإن الآيات التي قبلها والآيات التي وردت بعدها تتكلم لا عن الصفات الذاتية لله تعالى بل تتكلم عن وجوب طاعة البشر لله تعالى وعبادته لكونه مدبراً لشؤونهم خالقاً لهم ، وهو نفس معنى الآية محل الكلام، .
ولتحصيل هذا المعنى نذكر فيما يلي الآيات إلى سبقت آية الاستواء محل البحث .
فقد قال تعالى: " ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين {50}الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون{51}ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون{52 } هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل، قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون{53}".
فهذه هي الآيات التي سبقت الآية المذكورة لا ترى فيها ذكراً لصفة من صفات الله الذاتية، ولكنك ترى فيها تحديداً لعلاقة البشر مع خالقهم، وتفهيمهم أن عليهم أن يعبدوه ويطيعوه فيما يأمر هم به ولا يخالفون أمره، لأنه هو الذي أنعم عليهم بنعمة الوجود.
وأما الآيات التي تلت هذه الآية، فهي تتكلم أيضاً عن نفس الموضوع كما ستراه .
قال الله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين{55}ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين{56} وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون{57}"
إلى آخر الآيات، التي مَن يفهمها يعلم أنّها لا علاقة لها بصفات ذاتيّة للّه تعالى، بل هي توضح للنّاس مدى فضل اللّه عليهم، بحيث يجب عليهم طاعته وعبادته .
والذي نريد قوله هنا، إنّ أصل وضع - أو اعتبار- هذه الآية من آيات الصّفات، أي من الآيات التي تتحدّث عن الصّفات الذّاتيّة للّه تعالى غير المتعدّية إلى الخلق بآثارها، هو اعتبار فاسد، وبالتّالي فمن اعتبرها كذلك، اعترف بأنّه لا يستطيع فهم حقيقة الصّفات –التي توهّم وجودها-، فلزمه القول بأنّ هذه الآية من المتشابهات التي يجب الإيمان بها والسّكوت عنها .
وهذا الاعتبار أي القول بأنّها من المتشابهات، ناتج أصلاً عن اعتبارها تتكلّم عن صفة ذاتيّة للّه تعالى، وفعل لا يتعدّى إلى خلقه، بل يلتزم ذاته تعالى، ولمّا لم يستطع فهم حقيقة وصفه بل – كيفيّة - هذا الفعل الذي زعمه، ادّعى أنّ هذه الآية من المتشابهات كما قلنا.
والحقّ الذي لا شكّ فيه أنّها من المحكمات التي لا يضطّرب المسلم العاقل في فهم المراد منها .