للاستاد ابو حغص
حسن المحاججة/في بيان ان الله لا داخل العالم ولا خارجه
الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه
قد يحتج بالكتاب على ذلك فيقال:
قوله تعالى: (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) حجَّةٌ على عدم كونه خارج العالم، وعلى عدم كونه تعالى داخل العالم.
وهذا استدلال جيِّد.
وبيان وجه الاستدلال أن يقال –كما ذكره ابن مرزوق عن العلامة أبي عبد الله بن الجلال-: (لو كان في العالم أو خارجاً عنه لكان مماثلاً، وبيانُ المماثلة واضح، أما في الأول: فلأنه إن كان في العالم صار من جنسه، فجيب له ما وجب له).
قلتُ: أي صار من قبيل الأجسام ومادة العالم؛ لأنه إن كان داخل العالم فيكون جزءاً منه، وما كان جزءاً من شيء كان مماثلاً له في الجنس، فالورقُ مثلاً ليس من جنس الحديد إلا باعتبار أن كليهما أجسام ومواد، ولذا لا يمكن أن يكون الورق جزءاً من الحديد، وكذا الطير ليس جزءاً من الأحجار لاختلاف الجنس، إلا باعتبار أن كليهما أجسام.
(وأما في الثاني: فلأنه إن كان خارجاً لزم إما اتصاله وإما انفصاله: إما بمسافةٍ متناهية أو غير متناهية، وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص) انتهى كلام العلامة.
قلتُ: الناسُ الذين يقولون إن الله تعالى خارج العالم ويفهمون حقيقة هذا القول، هم مجسمة، سواء اعترفوا بهذا أم لا؛ لأنهم يقولون إن الله تعالى خارج العالم في جهة من العالم، وهي جهة الفوق، ويقولون: إن هذا هو المكان الذي نقول إن الله تعالى فيه!!
ويحتجون على هذا بأن يقولوا:
إن من يتصف بأنه لا خارج العالم ولا داخل فهو معدوم؛ لأنه لا يتصور وجود شيء لا داخل العالم ولا خارجه.
فمن حيث الاحتمالُ العقلي عندهم، إما أن يكون داخل العالم أو يكون خارجه، ويبطل أن يكون داخل العالم، فوجب أن يكون خارجه، وما دام وجبَ كونه خارج العالم فقد وجب كونه في جهةٍ، والجهات متعددة، ويستحيل أن يكون تحت العالم أو يمينه إلى آخره، فوجب أن يكون فوقه؛ لأن هذه الجهة جهة كمال، وهي التي تليق بالله تعالى، فصار معبودهم بعد هذا البيان خارج العالم، وفي جهة الفوق، هذا حاصل كلامهم.
فنقول وبالله التوفيق:
كلامهم هذا متهافت، ويدلُّ على سخف عقولهم، ولا يغترُّ به إلا جاهل، لا يفهم معاني الألفاظ ولا يعقلها.
فالله تعالى كان قبل كل شيء، والعالم كله بما فيه مخلوق، والعالم له بداية لم يكن قبلها موجوداً، فقبل أن يخلق الله العالم هل كان في جهةٍ أو كان في مكان ؟! الكل متفق على أن المكان والجهات كلها مخلوقة، ومن قال غير هذا فقد كفر بملة الإسلام، فالله تعالى كان ولم يكن شيء غيره.
فنحن في هذا الحال نسأل هؤلاء المجسمة: هل كان لله خارجٌ وداخلٌ ؟
إن قالوا: نعم، كفروا، وأقروا على أنفسهم بأن الله محدودٌ وله جهاتٌ ومكانٌ، وقائل هذا كافرٌ في هذه الحال.
ونسألهم: هل يمكن أن يتصور العقلُ في هذه الحالة وجود جهات وأبعادٍ وغير هذا من توهمات ؟ إن قالوا: نعم، كفروا، وتناقضوا أيضاً.
فنقول: ولما خلق الله العالم كيف تقولون إنه خلقه تحته وصار هو فوقه ؟!!
إذن الله تعالى بعد أن لم يكن محدوداً جعل نفسه محدوداً !
الله تعالى بعد أن لم يكن له تحتٌ صار له تحتٌ !
الله تعالى بعد أن لم يكن في جهة صار في جهة !
الله تعالى بعد أن لم يكن في مكان صار في مكان !
إذن الله تعالى تأثَّر بوجود العالم وصار محدوداً وفي مكان وفي جهةٍ .. إلخ، وهذا في غاية القبح منكم أن جعلتم المخلوق يؤثر في الخالق، فسبحان الله، ثم تزعمون أنكم تنزهون الله تعالى !! كلا، إنكم مشبهون، تصفون الله تعالى بصفات النقص، التي يتنزه عن مثلها المخلوق.
ونقول: الله تعالى لا نسبة بينه وبين الخلق، لا في جهةٍ ولا مكانٍ ولا زمان، ولا شيء من الصفات.
ثم نقول: أنتم تزعمون أنكم عرفتم بالعقول أن كل موجودين فلا بد أن يكون واحدٌ منهما في جهةٍ من الآخر.
فنسألكم: هذا الكلام العام كيف عرفتموه ؟ وما دليلكم عليه ؟ والمعلوم أن القضية الكلية تعرف إما بالاستقراء أو بقياس عقلي برهاني لا يردُ عليه استنثاء.
فإن ادعيتم أنكم عرفتموه بالاستقراء، فأنتم كاذبون؛ لأنكم لم تدركوا قطعاً كل المخلوقات الجسمانية التي خلقها الله، بل لم تدركوا الموجودات في السماء الدنيا، بل تدركوا الموجودات على ظهر الأرض، بل أنتم لا تدركون حتى حقيقة أنفسكم !!
وما دام هذا –ولا تستطيعون الانفلات منه-، فلماذا الادعاء ؟
ثم كيف تزعمون بعد هذا أن هذا الكلام ينطبق حتى على الله تعالى، فعجباً منكم، تزعمون أنكم منزِّهون ومتقيدون بالكتاب والسنة، ثم تطلقون هذا الحكم المتهافت هكذا !
ونسألكم: هل أدركتم حقيقة الله تعالى، فعلمتم أنه في جهةِ الفوق ! وأدركتم أنه لا يمكن أن يوجد إلا في جهةٍ ومكان، فأطلقتم هذا الكلام !!
فماذا بقي لكم من دلالة العقول ؟
هل تقولون: إنكم أدركتم هذا بالقياس العقلي، فتقولون: كل الموجودات التي نراها تكون في جهةٍ ومكان، والله موجود، فيجب كونه في جهةٍ ومكان ؟!!
فنقول لكم: هذا الكلام لا ينطبق إلا على ما شهدتموه من الأجسام، فأنتم قد رأيتم حولكم أجساماً كثيرة، كل منها في جهة من الآخر، فتصورتم الله جسماً، فقلتم: هو أيضاً في جهةٍ ومكان، وإلا فإننا ندرك وجود بعض الموجودات وليس واحدٌ منها في جهةٍ من الآخر، فيصبح قولكم: كل موجود يجب أن يكون في جهةٍ باطلاً.
[أمثلة تبطل لزوم اتصال الموجود بكونه داخل أو خارج]
وها نحن نضرب لكم بعض الأمثلة التي لا تستطيعون الانفكاك منها، فنقول:
1- الشعور بالحب والكراهية موجود لا شك فيه، فإذا أحب الإنسان فإن الحُبَّ يوجد فيه، وإذا كره فإن الكراهية توجد فيه، ويمكن أن يحب الإنسان شخصاً أو أمراً ويكره أمراً آخر، فيوجد فيه في هذه الحال الحب والكراهية معاً.
والإنسان يؤمن بوجود الحب والكراهية في ذاته ويجزم به، من دون حاجته منه إلى تصور جهةٍ تحلُّ فيها هذه الكراهية أو الحب، فأين حبك أيها الإنسان من كرهك، هل هما في جهةٍ من بعضهما ؟